كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال السدّي وزيد بن أسلم: معنى الآية {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} يريد من المَضَاجِع يعني النَّوم، والقصد بهذا التأويل أن يعمّ الأحداث بالذّكر، ولاسيما النوم الذي هو مختلف فيه هل هو حدث في نفسه أم لا؟ وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير؛ التقدير: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} من النّوم، {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط} {أَوْ لاَمَسْتُمُ النساء} يعني الملامسة الصغرى فاغسلوا؛ فتمّت أحكام المُحدِث حدثًا أصغر.
ثم قال: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فاطهروا} فهذا حكم نوع آخر؛ ثم قال للنوعين جميعًا: {وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا} وقال بهذا التأويل محمد بن مَسْلَمة من أصحاب مالك رحمه الله وغيره.
وقال جمهور أهل العلم: معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة مُحْدِثين؛ وليس في الآية على هذا تقديم وتأخير، بل ترتب في الآية حكم واجِد الماء إلى قوله: {فاطهروا} ودخلت الملامسة الصغرى في قوله: «مُحدِثين».
ثم ذكر بعد قوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فاطهروا} حكم عادم الماء من النوعين جميعًا، وكانت الملامسة هي الجماع، ولابد أن يذكر الجُنُب العادِم الماء كما ذكر الواجِد؛ وهذا تأويل الشافعيّ وغيره؛ وعليه تجيء أقوال الصحابة كسعد بن أبي وقّاص وابن عباس وأبي موسى الأشعريّ وغيرهم.
قلت: وهذان التأويلان أحسن ما قيل في الآية؛ والله أعلم.
ومعنى {إِذَا قُمْتُمْ} إذا أردتم، كما قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ} [النحل: 98] أي إذا أردت؛ لأن الوضوء حالة القيام إلى الصلاة لا يمكن.
الثالثة قوله تعالى: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} ذكر تعالى أربعة أعضاء: الوجه وفرضه الغسل واليدين كذلك والرأس وفرضه المسح اتفاقًا واختلف في الرجلين على ما يأتي، لم يذكر سواها فدل ذلك على أن ما عداها آداب وسنن.
والله أعلم ولابد في غَسْل الوجه من نَقْل الماء إليه، وإمرار اليد عليه؛ وهذه حقيقة الغسل عندنا، وقد بَيَّنّاه في «النساء».
وقال غيرنا: إنما عليه إجراء الماء وليس عليه دَلْكٌ بيده؛ ولا شك أنه إذا انغمس الرجل في الماء وغمس وجهه أو يده ولم يُدَلِّك يقال: غَسَل وجهه ويده، ومعلوم أنه لا يعتبر في ذلك غير حصول الاسم، فإذا حَصَل كفاى.
والوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة، وهو عضو مشتمل على أعضاء وله طول وعرض؛ فحدّه في الطول من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين، ومن الأُذن إلى الأُذن في العرض، وهذا في الأمرد؛ وأما الملتحي فإذا اكتسى الذّقن بالشعر فلا يخلو أن يكون خفيفًا أو كثِيفًا؛ فإن كان الأوّل بحيث تبِين منه البشرة فلابد من إيصال الماء إليها، وإن كان كثيفًا فقد انتقل الفرض إليه كشعر الرأس؛ ثم ما زاد على الذّقن من الشعر واسترسل من اللحية فقال سُحنون عن ابن القاسم: سمعت مالكًا سئل: هل سمعت بعض أهل العلم يقول إن اللحية من الوجه فليمرّ عليها الماء؟ قال: نعم، وتخليلها في الوضوء ليس من أَمْر الناس، وعاب ذلك على من فَعَله.
وذكر ابن القاسم أيضًا عن مالك قال: يحرّك المتوضّىء ظاهر لحيته من غير أن يدخل يده فيها؛ قال: وهي مثل أصابع الرجلين.
قال ابن عبد الحكم: تخليل اللحية واجب في الوضوء والغُسْل.
قال أبو عمر: رُوِي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه خَلَّل لحيته في الوضوء من وجوه كلها ضعيفة.
وذكر ابن خُوَيْزِمَنْدَادَ: أن الفقهاء اتفقوا على أن تخليل اللحية ليس بواجب في الوضوء، إلا شيء رُوِي عن سعيد بن جبير؛ قوله: ما بال الرجل يغسِل لِحيته قبل أن تنبت فإذا نبتت لم يغسِلها، وما بال الأمْرَد يَغسِل ذقنه ولا يغسِله ذو اللحية؟ قال الطحاويّ: التّيمّم واجب فيه مَسْح البشرة قبل نبات الشعر في الوجه ثم سقط بعده عند جميعهم، فكذلك الوضوء.
قال أبو عمر: من جَعَل غسل اللحية كلها واجبًا جَعَلَهَا وَجْهًا؛ لأن الوجه مأخوذ من المواجهة، والله قد أَمَر بغسل الوجه أَمْرًا مطلقًا لم يخصّ صاحب لحية من أمرد؛ فوجب غَسْلها بظاهر القرآن لأنها بدل من البَشَرة.
قلت: واختار هذا القول ابن العربي وقال: وبه أقول؛ لما رُوِي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَغسِل لحيته، خرّجه الترمذي وغيره؛ فعيّن المحتمل بالفعل.
وحكى ابن المنذر عن إسحاق أن من تَركَ تخليل لحيته عَامِدًا أعاد.
ورَوى الترمذيّ عن عثمان بن عَفّان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلّل لحيته؛ قال: هذا حديث حسن صحيح؛ قال أبو عمر: ومن لم يوجب غسل ما انسدل من اللحية ذهب إلى أن الأصل المأمور بغسله البشَرَة، فوجب غسل ما ظهر فوق البَشَرة، وما انسدل من اللحية ليس تحته ما يلزم غَسْله، فيكون غَسْل اللحية بدلًا منه.
واختلفوا أيضًا في غَسْل ما وراء العِذار إلى الأذن؛ فَروى ابن وَهْب عن مالك قال: ليس ما خَلْف الصُّدْغ الذي من وراء شعر اللحية إلى الذقن من الوجه.
قال أبو عمر: لا أعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قال بما رواه ابن وَهْب عن مالك.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: البياض بين العِذار والأذن من الوجه، وغَسْله واجب؛ ونحوه قال الشافعي وأحمد.
وقيل: يغسل البياض استحبابا؛ قال ابن العربي: والصحيح عندي أنه لا يلزم غَسْله إلا للأمرد لا للمُعَذِّر.
قلت: وهو اختيار القاضي عبد الوهاب؛ وسبب الخلاف هل تقع عليه المواجهة أم لا؟ والله أعلم.
وبسبب هذا الاحتمال اختلفوا هل يتناول الأمر بغسل الوجه باطن الأنف والفم أم لا؟ فذهب أحمد بن حنبل وإسحاق وغيرهما إلى وجوب ذلك في الوضوء والغُسل، إلا أن أحمد قال: يُعيد من تَرَك الاستنشاق في وضوئه ولا يعيد من ترك المضمضة.
وقال عامّة الفقهاء: هما سنَّتان في الوضوء والغُسل؛ لأن الأمر إنما يتناول الظاهر دون الباطن، والعرب لا تُسَمِّي وجهًا إلا ما وقعت به المواجهة، ثم إن الله تعالى لم يذكرهما في كتابه، ولا أوجبهما المسلمون، ولا اتفق الجميع عليه؛ والفرائض لا تثبت إلا من هذه الوجوه.
وقد مضى هذا المعنى في «النساء».
وأما العينان فالناس كلّهم مجمعون على أن داخل العينين لا يلزم غَسْله، إلا ما رُوي عن عبد الله بن عمر أنه كان يُنضح الماء في عينيه؛ وإنما سَقَط غَسْلهما للتأذّي بذلك والحرج به؛ قال ابن العربي: ولذلك كان عبد الله بن عمر لمّا عَمِي يغسل عينيه إذْ كان لا يتأذّى بذلك؛ وإذا تقرّر هذا من حكم الوجه فلابد من غَسْل جُزْء من الرأس مع الوجه من غير تحديد، كما لابد على القول بوجوب عموم الرأس من مسح جزء معه من الوجه لا يتقدّر؛ وهذا ينبني على أصل من أُصول الفقه وهو: «أنّ ما لا يتم الواجب إلا به واجب مثله» والله أعلم.
الرابعة وجمهور العلماء على أنّ الوضوء لابد فيه من نيّة؛ لقوله عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيات» قال البخاريّ: فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحجّ والصوم والأحكام؛ وقال الله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] يعني على نِيَّته.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولكِنْ جهاد ونيَّة» وقال كثير من الشافعية: لا حاجة إلى نيّة؛ وهو قول الحنفية؛ قالوا: لا تجب النيّة إلا في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها ولم تجعل سببًا لغيرها، فأمّا ما كان شرطًا لصحّة فعل آخر فليس يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر إلا بدلالة تقارنه، والطهارة شرط؛ فإنّ من لا صلاة عليه لا يجب عليه فرض الطهارة، كالحائض والنُّفَساء.
احتج علماؤنا وبعض الشافعية بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} فلما وَجَب فعل الغسل كانت النيّة شرطًا في صحّة الفعل؛ لأن الفرض من قبل الله تعالى فينبغي أن يجب فِعل ما أمر الله به؛ فإذا قلنا: إن النية لا تجب عليه لم يجب عليه القصد إلى فعل ما أمره الله تعالى، ومعلوم أن الذي اغتسل تَبَرُّدًا أو لغرض ما، قَصَد أداء الواجب؛ وصحّ في الحديث أن الوضوء يكفّر؛ فلو صح بغير نية لما كفّر.
وقال تعالى: {وَمَا أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5].
الخامسة قال ابن العربي قال بعض علمائنا: إن من خَرَج إلى النهر بنيّة الغُسْل أجزأه، وإن عَزَبت نيّته في الطريق ولو خرج إلى الحمام فعزبت في أثناء الطريق بَطَلت النيّة.
قال القاضي أبو بكر بن العربي رضي الله عنه: فركَّبَ على هذا سفاسفة المُفْتِين أن نيّة الصلاة تتخرّج على القولين، وأوردوا فيها نصًّا عمّن لا يفرق بين الظَّن واليقين بأنه قال: يجوز أن تتقدّم فيها النية على التكبير؛ ويا لله ويا لَلْعالمين من أُمَّة أرادت أن تكون مُفْتِية مجتهدة فما وفَّقها الله ولا سددها؛ اعلموا رَحمكم الله أن النيّة في الوضوء مختلف في وجوبها بين العلماء، وقد اختلف فيها قول مالك؛ فلمّا نزلت عن مرتبة الاتفاق سُومِح في تقديمها في بعض المواضع، فأما الصلاة فلم يَختلف أحد من الأئمة فيها، وهي أصل مقصود، فكيف يُحمل الأصل المقصود المتَّفَق عليه على الفرع التابع المختلف فيه! هل هذا إلا غاية الغباوة؟ وأما الصوم فإن الشرع رَفَع الحَرَج فيه لمّا كان ابتداؤه في وقت الغَفْلة بتقديم النيّة عليه.
السادسة قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} واختلف الناس في دخول المَرَافِق في التحديد؛ فقال قوم: نعم؛ لأن ما بعد «إلى» إذا كان من نوع ما قبلها دخل فيه؛ قاله سيبويه وغيره، وقد مضى هذا في «البقرة» مبيّنًا.
وقيل: لا يدخل المرفقان في الغسل؛ والرّوايتان مرويّتان عن مالك؛ الثانية لأشهب؛ والأُولى عليها أكثر العلماء وهو الصحيح؛ لما رواه الدّارقُطْنيّ عن جابر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه وقد قال بعضهم: إنّ «إلى» بمعنى مع، كقولهم: الذَّوْد إلى الذَّوْدِ إبل، أي مع الذود، وهذا لا يحتاج إليه كما بيناه في «النساء»؛ ولأن اليد عند العرب تقع على أطراف الأصابع إلى الكَتِف، وكذلك الرّجْل تقع على الأصابع إلى أصل الفِخذ؛ فالمرفق داخل تحت اسم اليد، فلو كان المعنى مع المَرَافق لم يُفد، فلما قال: «إلى» اقتطع من حدّ المرافِق عن الغسل، وبقِيت المرافق مغسولة إلى الظُّفر، وهذا كلام صحيح يجري على الأُصول لغة ومعنى؛ قال ابن العربي: وما فهم أحد مقطع المسألة إلا القاضي أبو محمد فإنه قال: إن قوله: {إلى المرافِق} حدّ للمتروك من اليدين لا للمغسول فيهما؛ ولذلك تدخل المرافِق في الغسل.
قلت: ولما كان اليد والرّجل تنطلق في اللغة على ما ذكرنا كان أبو هريرة يبلغ بالوضوء إبطه وساقه ويقول: سمعت خَلِيلي صلى الله عليه وسلم يقول: «تبلغ الحِلْية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» قال القاضي عياض: والناس مجمعون على خلاف هذا، وألا يتعدّى بالوضوء حدوده؛ لقوله عليه السلام: «فمن زاد فقد تعدّى وظَلَم» وقال غيره: كان هذا الفعل مذهبًا له ومما انفرد به، ولم يَحْكه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وإنما استنبطه من قوله عليه السلام: «أنتم الغُرّ المُحَجَّلُون» ومن قوله: «تبلغ الحلية» كما ذكر.
السابعة قوله تعالى: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} تقدّم في «النساء» أن المسح لفظ مشترك.
وأما الرّأس فهو عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ومنها الوجه، فلما ذَكَره الله عز وجل في الوضوء وعيّن الوجه للغسل بقي باقيه للمسح، ولو لم يذكر الغسل للزِم مسح جميعه، ما عليه شعر من الرأس وما فيه العينان والأنف والفم؛ وقد أشار مالك في وجوب مسح الرأس إلى ما ذكرناه؛ فإنه سُئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء فقال: أرأيت إن ترك غَسْل بعض وجهه أكان يُجزئه؟ ووضَحَ بهذا الذي ذكرناه أن الأُذنين من الرأس، وأن حكمهما حكم الرأس خلافًا للزهريّ حيث قال: هما من الوجه يغسلان معه، وخلافًا للشعبيّ حيث قال: ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرّأس؛ وهو قول الحسن وإسحاق، وحكاه ابن أبي هريرة عن الشافعيّ، وسيأتي بيان حجتهما؛ وإنما سمّي الرأس رأسًا لعلوّه ونبات الشعر فيه، ومنه رأس الجبل؛ وإنما قلنا إن الرأس اسم لجملة أعضاء لقول الشاعر:
إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أَكْثَرى ** وغُودِر عند المُلْتَقَى ثَمَّ سَائِرِي

الثامنة واختلف العلماء في تقدير مسحه على أحد عشر قولًا؛ ثلاثة لأبي حنيفة، وقولان للشافعي، وستة أقوال لعلمائنا؛ والصحيح منها واحد وهو وجوب التعميم لما ذكرناه.